الطاهر الطويل
يميل الكثير من السياسيين العرب إلى توظيف الدين في خطبهم إذا توافق مع هواهم ومواقفهم، ويحاربونه إذا اعتبروه متعارضا مع مصالحهم الخاصة، ويجدون من الفقهاء والإعلاميين مَن يحللون ويدلسون على الشعوب كي تسلم بالأمر الواقع، تحت ذريع عدم شق الصف والسلم الاجتماعي والوحدة الوطنية… وهلم جرا.
آخر حالة يمكن الاستشهاد بها في هذا المجال حالة جمال ولد عباس، أمين عام جبهة التحرير الوطني الجزائرية، الذي وظّف القرآن الكريم لتأكيد مبايعة رئيسه الدائم عبد العزيز بوتفليقة، حيث ردد الآية الكريمة: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم. « وأضاف: «أولي الأمر منكم هو الرئيس، ما إن يقول شيئا حتى أقوم بتطبيقه»، وذلك جوابا على سؤال: «في حالة إذا لم يترشح الرئيس لولاية جديدة واقترح شخصية أخرى، ما موقف حزبكم؟».
وتناقلت وسائل الإعلام المختلفة هذا الكلام «الحكيم» الذي وصل صداه أيضا إلى قناة «الشرق» المصرية المبثوثة من تركيا، حيث خصص الإعلامي معتز مطر فقرة من برنامجه الشهير للموضوع، فأشبعه سخرية ونكتة. لكن الشيء الذي أثار اشمئزاز الإعلامي المصري، وجعله ينتفض أكثر، هو مشهد ثان للمسؤول الجزائري المذكور خلال أحد المؤتمرات الصحافية، إذ لم يستسغ أن يقاطعه أحد المواطنين من وسط القاعة، فأخذ يغلي ويزبد ويردد: «اسكت… اسكت. اسكت!»وحين نفد صبره، طلب من الحاضرين إخراج الشخص المعترض من القاعة، وإلا سيخرج هو. ورأى معتز في سلوك المسؤول الجزائري جمال ولد عباس تماهيا مع الآية الكريمة «… وأولي الأمر منكم»، فكأن لسان حاله يقول: «أنا ولي أمركم فأطيعوني».
مشهد مماثل حصل من قبل بين أحد أعضاء البرلمان المصري وعبد الفتاح السيسي حينما تناول الأول الكلمة في لقاء عام وطلب من الثاني تأجيل الزيادة في أسعار الوقود والكهرباء والرفع من الحد الأدنى من الأُجور، فسأله السيسي منفعلا: انت مين؟ أنت دارس الموضوع اللي بتتكلم فيه ذه؟ انت عايز دولة تقوم ولا تفضل ميتة؟ ادرسوا المواضيع كويس واعرفوا البلد فيها إيه».
«اسكت» ـ كما قال معتز مطر ـ ذات تفريعات عديدة، منها ما حصل مع جمال ولد عباس الذي أمر بطرد مواطن من القاعة لكونه قاطع كلامه، ومنها ما حصل مع النائب البرلماني المصري الذي لم يظهر له أثر بعد تلك الواقعة مع السيسي. هناك السكوت الذي يؤدي إلى السجون وسراديب المعتقلات، وهناك السكوت الذي يعني «السكوت من الدنيا برمتها».
اسأل السيسي!
أما زميلنا محمد ناصر على قناة «مكملين» فخصص حلقة أمس الأول من برنامجه «مصر النهار ده» للدعوة التي أطلقها عبد الفتاح السيسي في وجه الشباب من أجل الكلام، وليس السكوت، حيث فتح صفحات التواصل الاجتماعي لطرح أسئلة عليه تحت شعار: «اسأل السيسي»، لكن ناصر اعتبر هذه الدعوة مجرد كمين لاستدراج الناس من أجل إخراس أصواتهم.
اقترح في برنامجه لعبة مسلية من خلال طرح الأسئلة التالية: ما هو راتبك يا سيسي؟ وما هي ذمتك المالية؟ لكن تسجيل الأسئلة في صفحة السيسي لا يكفي، بل لا بد من استكمال البيانات حول السن والنوع والمحافظة والجامعة والسن والوظيفة والهاتف والوسيلة الإعلامية المفضلة. وما إن تنتهي من تسجيل المعطيات ومن ضمنها الرقم القومي حتى يقف أمامك أحد عناصر الأمن القومي ـ أيضا ـ لكي يقدم لك الجواب على السؤال، ويشيعك إلى مثواك الأخير. يقول ناصر بسخرية، مستحضرا أيضا قصيدة أحمد مطر الشهيرة أين صاحبي حسن؟ التي يقول مطلعها: «زار الرئيس المؤمتَن/ بعض ولايات الوطن/ وحين زار حينا/ قال لنا:/ هاتوا شكاواكم بصدق في العلن/ ولا تخافوا أحدا/ فقد مضى ذلك الزمن…» إلى آخر القصيدة.
الخوف من النقد!
خلال النقل التلفزيوني لجلسات البرلمان المغربي منذ ثلاثة أيام، شوهد النائب الشاب عمر بلافريج (عن فدرالية اليسار) وهو يتحدث لغة جريئة غير مألوفة، حيث تساءل: لماذا لا يقع التطرق إلى المشاريع التي يدشنها الملك؟ وأوضح: ليس لأن الملك يدشن مشروعا ما، فينبغي أن نوقف ذكاءنا. صحيح أن هناك مشاريع كبرى إيجابية ويجب تقييمها ودعمها، ولكن بعضها الآخر غير ناجع، وبالتالي يجب أن تعدل أو توقف أو يعاد النظر فيها، وهناك مشاريع غير معقولة في بلد نام مثل المغرب. وأضاف إنه لا يفهم السبب الكامن وراء التطرق إلى تلك المشاريع، أهو الخوف؟ أم «الحشومة» (الخجل)؟ مؤكدا أن السياسة تنبني على الأخلاق والاحترام المبني على الصدق وليس النفاق.
والواقع أن هذا الموقف الذي عبّر عنه البرلماني عمر بلافريج يأتي في سياق الهجمة التي يتعرض لها بعض اليساريين المغاربة من لدن مَن يعتبرون أنفسهم وطنيين أكثر من باقي المواطنين المغاربة وملكيين أكثر من الملك نفسه. وما حصل لنبيلة منيب (الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد) أصدق مثال على ذلك، حيث تعرضت لحملة شعواء عبر مجموعة من المواقع الإلكترونية ووسائط التواصل الاجتماعي، لا لشيء إلا لوقوفها إلى جانب معتقلي حراك الريف الاجتماعي السلمي ومشاركتها في مسيرة جماهيرية أقيمت لهذا الغرض في مدينة الدار البيضاء.
هكذا يظهر أن أسلوب «اسكت… اسكت… اسكت» ينتقل من بلد عربي إلى آخر، ويتبناه المستفيدون من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كما تتبناه طائفة من المخدوعين ممن ترضى بالفتات، مقابل السكوت عن القمع والظلم والفساد والاستبداد.
(نشر بتاريخ 20 يوليوز 2018)